يقول ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: فكر الإِنسَان كالطاحون يدور، ثُمَّ يدور، وهكذا الإِنسَان لا يتوقف عن الهمّ، فإن الإِنسَان في أي لحظة وهو مستيقظ يفكر في شيء، والفكر يدور ويجول ولا يتوقف، فإن شغل فكره بالتفكير في الله عَزَّ وَجَلَّ وفي آياته وخلقه وأمره ونهيه ووعده ووعيده، واجتهد في طاعة الله فنتيجة ذلك أنه سيعمل أعمالاً صالحة بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن لم يشغل وقته في التفكير في أعمال الخير، فإنه سيفكر في ضدها من أعمال الشر.
وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تَعَالَى فيه، ولم يصلوا عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إلا كَانَ عليهم ترة يَوْمَ القِيَامَةِ} أي: نقصاً، وحسرة، وندامة يَوْمَ القِيَامَةِ، وذلك أنهم لم يذكروا الله في هذا المجلس فيمر هذا الوقت خسارة عليهم.
ولهذا فالسؤال بأننا نتكل عَلَى ما كتب وندع العمل، قلنا: إنه غير وارد لأنك يا أيها الإِنسَان حارث وهمام قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ))[الانشقاق:6] خيراً كَانَ أو شراً، تكدح فتلاقيه، ويقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه))[الإسراء:84] قال ابن عباس وغيره: عَلَى طريقته.
فكل إنسان بحسب إرادته ونيته يعمل، ولا يوجد إنسان لا يعمل أبداً، فلابد أن يعمل، فإما أن يكون الكدح والعمل عَلَى نهج، فيه خير وسنة وطاعة، فهذا مقبول، وإما أن يكون العمل عَلَى نهج وطريقة فيها فجور وضلال وشر، فيكون العمل والكدح شراً ضائعاً، ولهذا قال: ((فَمُلاقِيهِ)).
ثُمَّ فصل فقَالَ: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)) [الانشقاق:7] ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)) [الانشقاق:10] أي: النَّاس الذين يعملون ويكدحون فإنهم لن يخرجوا عن هذا الأمر، إما أن يكونوا من أصحاب اليمين، وإما من أصحاب الشمال.
فلابد من معرفة قيمة الزمن وقيمة العمر من قيمة الفكر نفسه، ولابد من محاسبة هذا القلب القاسي المتحجر كم مضى عليه من دهور لم يخشع لله عَزَّ وَجَلَّ، ولم يلن له، ولابد من التفكير في أعمارنا، فالكل في لهو وفي لعب، والكل في الباطل والحرام إلا من رحم الله، والأحرى أن نبكي عَلَى فوات العمر الذي ضاع في غير طاعة، وأن نبادر بالتوبة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نتدارك هذا العمر، ولهذا قال عَزَّ وَجَلَّ: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) [فاطر:37] أي: أعطيناكم مهلة كافية حتى يتذكر كل ذي لب، ويرجع عن غيه، ويعرف طريق الهدى المستقيم ((وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) إن كَانَ النذير هو الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد جَاءَ إِلَى من بعث فيهم، وسنته جاءت إِلَى من بعده، وفسره بعض السلف بأنه الشيب، وهو نذير مفارقة هذه الحياة، فإذا عمر الإِنسَان وجاءه النذير فقد أعذر الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَى من بلغ الستين ولم يتب
.
فالإِنسَان إما أن يعمل خيراً أو يعمل شراً، ولهذا جَاءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواب يتضمن هذا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة} فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب بجوابين متضمن لما ذكرنا وزيادة وهو أنه عندما سئل ألا نمكث عَلَى كتابنا وندع العمل قَالَ: {بل اعملوا فكل ميسر لما خلق الله..}.
ففي الحالين الشيء الموجود الذي لا بد منه هو: العمل، وإنما الخلاف فيما يكون العمل، أهو عمل خير، أو عمل شر، ويتحدد هذا بالتيسير من الله عَزَّ وَجَلَّ.
فمن كَانَ من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وهل في ذلك ظلم؟
جَاءَ في رواية أخرى للحديث: {لما قال عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: لأختبرن أبا الأسود الدؤلي قال: أفلا يكون ظلماً، يكتب عليهم ثُمَّ يدخلهم الجنة أو النَّار. قال: ففزعت فزعاً شديداً، قلت: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: إنما سألتك لأحزر عقلك}.
فانظر إِلَى قوة فكره وعقله، أين الظلم من هذا التيسير الذي يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ أمر مشاهد محسوس، فإذا رأيت الإِنسَان يقرأ القُرْآن، ويحب مجالس الذكر، ويحب مخالطة أهل الخير، ويحرص عَلَى ما يقربه إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فنقول: إنه من أهل السعادة، مع أننا لا نقطع لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النَّار، لكن الذي نقطع به أننا نقول: إن الذي يعمل الطاعات ويكره المعاصي والمنكرات فهذا هو سبيل أهل السعادة، وأن الذي يعمل المعاصي ويحب أهل المعاصي.
فنقول: إن هذا هو سبيل أهل الشقاوة والفجور، وإلا فلا يجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبا لهب وحمالة الحطب وأبيَّ بن خلف وأمية وأمثالهم الذين عذبوا المؤمنين مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وقاتلوا وقتلوا، فإن هَؤُلاءِ مشو في طريق آخر، وكل من الطريقين سيؤدي بصاحبه إِلَى النتيجة التي لا بد منها، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ يسر لهَؤُلاءِ عمل أهل السعادة، ويسر لأولئك عمل أهل الشقاوة.